عن أدب النساء وليلى أبوالعلا
تُغني فيروز لسيد الهوى مُورق الجمال..
وأعيد أنا - للمرة الرابعة أو الخامسة - قراءة رواية ليلى
أبوالعلا "المترجمة".
وأحاول كتابة هذا المنشور وأنا أعرف تمامًا أني حين
أقرأه سأراه باهتًا وشاحبًا مُقارنة بما أصفه عن هذه
الحكاية..
يتجدد افتتاني بقدرة ليلى لتحويل كل هذا القدر من
الحُب والوحشة والإضطراب لحروف وكلمات، وكأنها
تجمع الندى العالق في الهواء الرطب في قارورة، أو
تحصد رائحة التراب المُبلل في زجاجة عطر!
ومازلتُ أستشعر هذا الكَشف، هذه الجذبة في كل
قراءة، وأستأنس في كل مرة أقرأ فيها حكاية لها صوت
وطعم ورائحة.
كانت رفيدة - صديقتي في مُلتقى أقرأ 2020 - هي أول
من أرشدني لقراءة ليلى أبوالعلا، كانت ترى فيها وصف
هادئ للغُربة التي نعيشها. في ذلك الوقت كُنت وكما
تصفني رفيدة "سودانية بالفطرة" أحن للبلاد التي ألفتها
بغير معرفة حقيقيّة، وأؤمن إيمانًا تامًا بحتمية العودة
إليها "كُنت مُمتلئة حتى العظام بأماكن نائية ومشحونة
بأصداءها وأصواتها"
لم أجد في ذلك الحين نُسخ ورقية أو الكترونية مُتاحة من
الرواية، حتى وجدت نسخة منها مُصادفة في تلقرام بعد
ثلاثة أعوام كاملة وبعد أن أصبحتُ أنا وحكايتي أكثر
شبهًا بسمر..
كتبت تدوينة "انقطاع" عندما قرأت رواية ليلى أبوالعلا
للمرة الأولى، أذكر صوت عبدالحليم وقارئة الفنجان؛
وأذكر أيضًا كيف تواريت أنا تحت الأغطية وأنا أُحس
بالبرد وبالوجع، كيف مدّت ليلى كفها وكَشفت الغطاء
عن الجراح القديمة؟
رأت سمر الوطن كما رأيته، "نجفة مُعلقة في سقف
حياتها"؛ في ذكرى زجاجات "البزيانوس" البارد، أبتسم
وأذكر احتفاظي بورقة آخر زجاجة "بزيانوس" شربتها في
الخرطوم في صندوق الورق الموجود في الرف الأخير
للمكتبة..
يواسيني هذا الشبه الحميم بين غُربتينا، وتؤنسني
حكايات النساء لأنها مليئة دائمًا بتلك الأفكار والمشاعر
التي كُنت أظن أني وحيدة فيها، للنساء مجازات
تُشبههن - تصف ليلى الحديث الخجول المُضطرب
بالرغوة التي تصعد على السطح عند طهو الدجاج - تتنبه
لغياب الإهتمام الأنثوي في منزل راي حين ترى البقع
على الحوض والحنفيّات..
يخفت صوت فيروز وصوت العالم كُله أمام مقدار
الوحشة الذي تصفه ليلى
"ظَلّت لأربع سنوات مريضة في مستشفى شيدته
لنفسها. مريضة سقيمة بمرض اسمه السلبية، وقت
تضيعه سدى، دوامة الحزن تبتلع الزمن. الساعات
تتفلّت كالدقائق. أيام لا تزيد فيها على أداء الصلوات
الخمس، هذا كان هو التحدي الأخير، الخيط الوحيد الذي
يشدها إلى السلامة والرُشد. من دونه. من دون الصلاة.
كانت ستنهار، كانت ستفقد الوعي بتعاقب الليل والنهار
"
كانت هذه هي الحياة التي تحياها سمر في بريطانيا بعد
وفاة زوجها الشاب، وانتقال طفلها الوحيد للعيش مع
جدته في السودان، وبقيّت هي تعمل لإعالته كمترجمة
للباحث الاسكتلندي" راي آيلز "..
تصف ليلى كيف تخّلت سمر عن أمومتها تجاه الإبن؛
لفرط ما شعرت به من تيه وضياع بعد رحيل والده، كيف
انهارت حصونها مرة واحدة، وكيف استبدت بها الوحشة
وأكلت الغُربة روحها.
" فقد قُطفت حياة طارق من دون إنذار، من دون مرض،
كإحدى شعيرات الوجه التي التقطت بملقاط! "
طارق الذي كان خيطًا مُهمًا في نسيج حياة سمر، إبن
العمة الذي التقته وأحبته وتماهت كُلُها في كيانه وحياته.
على خريطة مُلقاة على الأرض في منزل راي ترى سمر
حنينها الجارف للوطن
"في بقعة ما من هذه الصفرة المديدة، قرب هذه الخضرة
التي تشير إلى النيل توجد الحياة التي نُفيت من حِماها "
كيف جَرَفها هذا الحنين للعيش خارج الزمن وخارج
المكان "أربع سنوات هامت فيها روحها في متاهات
الماضي، ولم يكن الحاضر ليظفر منها حتى بالملامسة."
جَذَبها الحاضر لأول مرة حين التقت براي في منزله، كيف
كان يستمع بصبر لما ترويه عن حياتها في السودان، عن
طارق ووالدته، كان ذلك يُعيدها ببطء وبصبر إلى الحياة،
لاحظت سمر نَفسها حين التقته، تنبهت لتشقق
رجليها،و لخُصل الشيب التي غَزت رأسها، وغرقت لأول
مرة في التفكير في الرجل الذي استأمنته على حكاياتها
عن الوطن وإنها لعمري حكايات ثمينة..
كان لسمر وراي طُرق موازية ليس بوسعها التوحد، أرواح
متلاقيّة وحيوات شديدة التنافر؛ اجتمعا بعد أن عاش
كليهما ما قُدر له من الحُزن..
في كل مرة قرأت فيها رواية "المترجمة" تمنيتُ لو أنها
كانت لي، تمنيتُ أن أحتكر هذه الحكاية، هذه المرآة
المصقولة التي تعكس الشجن والغربة والوحشة بوضوح
وشفافيّة!
هوامش
*رابط أغنية فيروز "سيد الهوى"
https://youtu.be/JsZLPpLojCc
*المُترجمة رواية للكاتبة السودانية ليلى أبو العلا كُتبت
بالإنجليزية وترجمها الخاتم عدلان للعربية نُشرت الطبعة
تعليقات
إرسال تعليق