قلق التأخُر


.قلق التأخُر. 

" البيوت التي ودعتنا في شهقة الفجر
ولم نعرف مُنذها طريق النبع أبدا.." 

أتساءل اليوم إن كان بوسعي الكتابة عن هذا الوجع الجمعي؛ عن الحرب، عن عام في عمري كان هذا الحدث البشع والمزلزل أهم أحداثه على كُل المستويات .. 
أعرفُني اليوم أكثر خوفًا مما مضى، أكثر تشكيكًا في حقيقة كُل شيء، لأن ركني الوحيد انهدم ولم يبق منه غير الطلل، أرى جنود الميليشا يغزون أحلامي الطويلة؛ والتي كانت دائمًا وسيلتي الوحيدة للتلاقي حين يغلبني الشوق! 
أقصي نفسي عمدًا من خوض نقاشات كثيرة عن آثار الحرب عليّ، لأني أعرف أن هُناك من تكبّد آثارًا أعظم، وكنت كما تقول الأغنية "أغالب دمعي وأتصبر"، وأروح عن النفس بالكتابة التي تلامس دائمًا حاجز البوح الشفاف ولا تخترقه خوفًا من ابتذال الوَجع، وهذه كانت الخُطة في البداية: كتابة نص قصصي طويل عن القشة التي تمسك بها الغريق، وذات القشة التي قصمت ظهر البعير؛ لكني ولأول مرة أظن أني نجحت - بدون سبق إصرار - في تخطي القالب الشخصي للحكاية، أصبحت في عز شكّي أملك لسانًا لطالما تمنيته.. 

ولأن لنصوص أعياد ميلادي سردية خاصة كنت أحرص فيها على الصدق والرضى؛ كان الوطن بطل حكايتي دائمًا! 
هذه المرة بفعل الحرب أري نفسي أكثر قُربًا من البلاد، أؤنثها لأول مرة في الخطاب، فتصبح أقرب لنفسي وأحنّ، وأحكي عنها منها؛ دون أن يتلبس حرفي جنّ الاغتراب الذي يحوّل كل ما كابدته من وجع لمشهد رماديٍّ سخيف في صفحة المدونة.. 

أكتب لأول مرة عن عازة وصابرة وطيبة، أستند على 
الأغنيات والقصائد والحديث الصباحيّ برنّة اللغة القديمة، أحنّ لأعوام الوَصل التي لم تطل، وأكتب عن الغياب القسري، عن كل شيء، ولا وقود لهذه الكتابة غير الشوق، الشوق الذي يمزق الحشا ويخضُ الدم... 
"اشتقت ليها الشوق غَلبَ
واشتقتَ أنزع همي في عتبات بيوتا الواسعة
وأنزع.. في ضُل عصاريها التعب"


ماذا يسعني أن أحكي بعد أن عزّ الوصال؟ 
أذكر القصة الأولى التي كتبتها في عامي السابع عشر؛ عن عتبات بيوتك الواسعة، عن الشجر والمسك والمحبة، وأذكر جيدًا كيف انتابني قلق التأخر في الوعكة الروحية "نص العام الثامن عشر"، الأعياد الأخيرة التي قضيتها في حُضنك الواسع، وأنا أحاول سد الهاوية بيني وبينك.. 
أرى وجهي في قلب أُمدرمان أسوقُ الخطى بغير هُدى في دروبها الواسعة، وأغالب في نفسي الخوف من الألفة، وأعود في المُغربيّة ملفعة بغبار مكتبات البوستة؛ أحمل ديوان محمد المهدي المجذوب "تلك الأشياء" وأثرًا عميقًا في القلب، وصورة مع جويرية وعبير على باب مركز عبدالكريم ميرغني .. 

اليوم يا صابرة، وبعض مني في ربوعك كُتب وذكريات وحكايات، دواوين درويش المُخبأة في الحقائب، أغنية عبدالباري التي كانت ربما تُعينني على عبور نهرك مرتيّن، وكل ما ارتديته في مواعيدي الصباحيّة معك، كُل ما يسعني أن أذكرك به مُخبأُ في شقة أمدرمان الأثيرة، وكل ما أملك من ريحك كتابًا واحدًا عن خليل فرح، هل يسعك الآن تخيل هذا القدر والسخرية في آن واحد!، هذا الكتاب الذي لم أقرأه إلا بعد الحرب لأني ابتعته وتركته في رفوف مكتبتي في المملكة في إجازة ما، حمل الكتاب اليتيم على عاتقه كُل الروائح والذكريات، ابتداءً من رائحة فناجين القهوة الورقية في الجامعة، وحتى صوت قصيدة محمد عبدالباري "زهرتان لحارس البرق"، وتسجيلات الأغنيات التي اقتسمتُها مع داليا، ونهارات الشكوى التي تطول وتطول.. 


هاهو العام الواحد والعشرون في عمري يمضي وأنا بعيدة عنك؛ غرّني الوصلُ وظننت يا طيبة أن وصلك منتهى الدُنيا وآخر الشقاء والكدر، أواجه اليوم عجزي يا دار الهوى وأعاتب النفس التي تَركتك في خضم الحرب وفرّت، تُغافلني أحزانك دائمًا، تجيء حين أطمئن.. 
"لو كنت أقدر أنزعك ..
من مخالب الخوف وجَلَجَلَةَ السلاح
ما كنت تاني رجعت ليك
خاوي اليدين ..
دامي الخُطى ومكسور جناح"  

ضاق مداك عليّ؛ ولم يبق لي من حُلم وصلك إلا القصائد والأغنيات، والشوق غَلب يا طيبة يا صابرة، وقطارُ العمر يمضي وكل الأعوام دونك نقص يأكل الروح والجسد، لم يبق فينا إلا بقاياك، هل يسعني احتمال المزيد من الشوق والمشقّة، من الوقوع في الهاوية التي تتسع بيني وبينك، هذه الهاوية التي أتممت ردمها قبل الحرب، وأصبحت يوم الحرب لأجدها كما هي وكأني لم أصرف عليها كُل ذلك الجهد والتعب والأسى.. 
منسوجة كُل الحروف من محبتك، من أغنيات مُغنيك، من طَيبَة حميّد ومصطفى حين قال 
"كُل ما تباعد بينا عوارض 
كل ما هواك يا طيبة مكنّي" 
تسألني الصديقة وأنا غارقة في هذياني "وعد إيش يعني مكني؟"، أجيب: يعني قهرني وجعني فاهمة، تهُز رأسها وتستمر في مشاركتي هذياني اليومي بالبلد، بالحرب وآثارها، وقلق التأخر عن ترميم الروح والحرب وإتمام مسيرة التعليم.. 

" شوق يخضُّ دمي إليه، 
كأن كل دمي اشتهاءْ
جوع إليه… 
كجوع كل دَمِ الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادَهْ!" 
واحد وعشرون عامًا يا عازة، يا دار الهوى وكُل عام دون شوقك لم يُعَد، هل بوسعي أن أنبش ذكراك في يوم كهذا؟
هذه الذكرى المُصفاة من الغضب، المُنقاة من الشوائب، ذكرى الحنين التي تُحيل كُل التعب لشجن وأسى، أسى يبتلع السنين، اليوم والغُرباتُ تتنازعُ في النفس، هل كان سيعزُّ فراقك يا عازة إن لم يتم لقاءنا في 2021؟ 
هل يمكن أن يعرف الإنسان معنى الظمأ قبل أن يعرف الماء؟ هل يمزّق الشوق لأمدرمان قلبًا لم يعرف الخليل؛ الرجل الذي كانت القدلّة في شوارعها آخر أمنياته؟ 

 
قبل اليوم كان المُفارق واحدًا "عارف قدمه"؛يستوحشه أهله وأحبته إن طال فراقه عن الحي، لكن الفراق اليوم كان فراقًا بغير وداع، ذهب الجميع وبقيَ الحي وحيدًا هُناك؛ يظنّ أن عودة أهله مسألة وقت - أليست كُل الحروب مسائل وقت؟ - لكنه أدرك بحدس خفي أن غيابهم لن يطول؛ فما زالت كُل ضحكاتهم منشورة في شوارعه، لم تفتقدهم البيوتُ بعد؛ وإن غزا الغبُار ملابسهم المطويّة في الرفوف، مكتباتهم العامرة التي لم تُمس، تُطل أكواب الشاي وفناجين القهوة خلف زجاج الخزانات، في تمام استعدادها؛ وكأن يدًا ما ستمتد نحوها في عصرية ما لإكرام ضيف أو خطيب. آنية الزرع الذي يقاوم الجفاف، وهديل الحمام الذي يحرُس البيوت، بقايا الذِكر في المجالس، وصوت شيخ الزين المُتسرب من مسجلة بعيدة لا يعرف مكانها أحد، السبورة التي لم تُمسح آخر دروسها، ونور مكتبة الجامعة الذي لم يُطفأ تزوره الكهرباء بين انقطاع وانقطاع، لم تفتقد مقاعد المواصلات أثر ركابها بعد.. صوت محمود عبدالعزيز ما زال يسكن فوارغها ويحرسها من الغياب، بوسعك أن تسمع خفوت صوت طقطقة الكمساري ساعة جمع الأُجرة من الركاب، وبوسعي أن أتذكر نقرةً خفيفةً توقظني من غرقي في صوت مُصطفى؛ لأمد مبلغ أُجرتي.. 

يا وجه مليان غُنا 
ومليان عشق وحنين" 
مازالت أصوات أولادك المسكونة بالطرب تسكن حافة النهر في مكان ما؛ وهم يغنون بصوت واحد "يوم أفارقك ليلة واحدة" أو "خمرة هواك يا مي".. 
مازالتِ حاضرة في خلوات البنيّات وصوت وردي يصدح "أقدلي وسكتي الخشّامة" و"القمر بوبا عليك تقيل".. 
يلوذون بِك حين تتنازعهم الغُربات، عندما لا يجدون من معاني الوَنَس إلا الغناء، محبوسةٌ أنتِ يا عازة في حناجرهم يبعثونك كلما باغتهم الشوق ويعيدون إليك كل مجدٍ لم يَتِم.
 
لا تتسع اللغة لوصف الفراغ الذي خلفه غيابنا عنكِ، هذا الغياب الذي يوجعنا بقدر ما يوجعك، والزمن الجائر يحول بيننا وبينك، بيننا وبين كُل ما يسُر! 
على وعد أن نلتقي مهما باعدت بيننا "العوارض"...

٢٢ يناير ٢٠٢٤
الخُبر. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

كيف أنساكِ؟