مالم يُغنّ الآن في هذا الصباح
صفحة من دفتر يوميات:
موعد المقابلة الشخصية
نمت بعد التاسعة صباحاً، واستيقظت في تمام الساعة الثانية عشر، تجولت في كل أرجاء المنزل وأنا أحمل في داخلي بذرة فرح تكبر شيئاً فشيئا،" فرح مرئيِّ وسرّيّ معاً" ..
أمشي وأنا أردد قول درويش
" فرحاً بشيءٍ ما خفيِّ
كُنْتُ أَحتضن الصباح بقُوّة الإنشاد
أَمشيَ واثقاً بخطايَ
أَمشي واثقاً برؤايَ.
وَحْيٌ ما يناديني: تعال!
كأنَّه إيماءةٌ سحريّةٌ,
وكأنه حُلْمٌ ترجَّل كي يدربني على أَسراره،
فأكون سِّيدَ نجمتي في الليل ...
معتمداً على لغتي.
أَنا حُلْمي أنا.
أنا أُمُّ أُمّي في الرؤى,
وأَبو أَبي,
وابني أَنا."
كان تلك هي المرة الأولى التي أردد فيها هذه الأبيات بإيمان عميق..
كأنها ولدت في ذلك اليوم..
جلست على كرسيي المُفضل ووضعت خلف ظهري لوحتي اليتيمة على يسارها درويش ينظر إلي بابتسامة ساخرة من غلاف جداريته وعلى يمينها وجه غسان العائد..
وخلف درويش يردد محمد عبد الباري بصوت مبحوح
"لأن القصيدة في كل شيء
كَبُرنا على اللغة المنتقاة"
تهتف غادة السمان بشجاعتها المعتادة من الرف السفلي لظل غسان كنفاني..
أنتظر الساعة الثانية
وكل ذلك يدور في رأسي قبل الثانية بدقائق قليلة..
إنها الثانية إلا بضع دقائق..
يُطل علي صوت رقيق مازلت أجهل صاحبته ليُخبرني أن أنتظر اللجنة التي ستحضر في تمام الثانية..
إنها الثانية ودقيقة..
أرتب أفكاري وأحشد الهواء في رئتي
لكن اللجنة لم تأتِ
الثانية ودقيقتين
لم تأت
وأنا أرتب أفكاري
الثانية وثلاث دقائق
وأربع دقائق
وعشر دقائق
بعثرت أفكاري عمداً في محاولة لمُعاقبة اللجنة..
أتت اللجنة بعد عشر دقائق..
تسألني احدى الجميلات ما اسمك فأسرد أسمي وقصة حياتي في ثوان مرتبكة..
لكنها "مشكورة" تتناسى وتتغاضى عن قصة حياتي لأنني لم أسردها كما يجب..
تسألني جميلة أخرى عرفت لاحقاً أن اسمها "حنان القعود" عرفينا عن نفسك وعن الكتاب..
هنا وفي هذه اللحظة تحديداً يهمس درويش همساً مدوياً في قلبي ويقول..
"ما لم يُغَنَّ الآن
في هذا الصباح
فلن يُغَنّى"
واستجبت بالطبع لهمس درويش وغنيت كل ما يمكن أن يُغَنّى..
تحدثت عني عن ليالي عن شجاعة غادة السمان عن واقعية بثينة العيسى عن خلود كارلوس زافون عن خريف السودان عن الشهداء عن ثورة ديسمبر عن أوجه الوطن.. عن كل شيء..
تبتسم حنان فيطمئن قلبي..
يبتسم محمد عبد الباري من خلفي ويقول "الجميلات دُوارٌ دائمٌ وهواهُن دخولٌ في المرايا"
يخرج جبران عن صمته ويهمس
"وأفضل العلم حُلمٌ إن ظفرت بِه
وسرت ما بين أبناء الكرى سخروا
فإن رأيت أخا الأحلام منفرداً
عن قومه وهو منبوذ ومحتقر
فهو النبي وبُرْدُ الغد يحجبه
عن أمةٍ برداء الأمس تأتزر"
مكتبتي حيّة ربما أكثر من اللازم..
وفي لحظة صمت، وعندما فرغت من كل ذلك الهذيان..
غمرني فيض من النور والطمأنينة فبدأت أتحدث عن شيخي الطيب صالح..
ربما بدت في تلك اللحظة موسم الهجرة إلى الشمال مجرد بوابة للحديث عن الطيب صالح،عن النيل الثالث كما أسميه..
النيل الذي أعرفه أكثر من النيلين حتى!
عن سودانية لغة الطيب صالح..
وربما كانت هي الشيء الوحيد الذي لم أقله في هذه الدقائق ولم أثبته لم أقل مثلاً ولم يحضرني في تلك اللحظة أن أقول أن للطيب صالح رواية أسمها مريود..
" ما قلت بَرِيد الطيب صالح
وما قلت الريدة فوق الحُب!
ما عرفتهم أنو الريدة أحن وأبقى من الحب.."
كان هذا هو الشيء الوحيد الذي لم أقله في ١٢ دقيقة..
تعليقات
إرسال تعليق