الصباح هُناك

أضواء الفجر تتسرب من بين السحب، ألمس أطراف الفراش البارد بكفيّ، أنفض أوراق شجر النيم الجافة التي هبطت عليّ بفعل الرياح من أشجار أجهل مكانها، أشجار تمد كفها لتسلم على شجرة مقطوعة في منزلنا. أستمع إلى صوت العصافير ثم صياح الديكة، أنهض متكاسلة بعد أن غمر ضوء الشمس باحة المنزل فأصبح النوم في الخارج مستحيلًا، أدخل إلى الغرفة، أضع رأسي وأحاول جاهدة القبض على أطراف الحلم الذي حلمت به لأتمه، يستيقظ الجميع فتتسلل أصواتهم إلى الغرفة، أكمل محاولاتي عديمة الفائدة في النوم فلا أتمكن. أستسلم للأمر الواقع، أنهض لأستحم وأبدأ يومي، أقضي النهار بين منزل جدتي ومنزل خالي الذي لا يفصله عن منزل جدتي إلا جدار قصير، وباب لا أذكر شكله -  ربما لأنه لم يغلق يومًا - لا أستبعد ألا يكون هناك باب حقيقي ربما كانت فرجة من الجدار بمقاس باب.. أشرب "شاي اللبن" هنا أو هناك أو لا أشربه حين لا أشتهيه، أجالس خالتي أو زوجة خالي وأساعدهم في اعداد الفطور، تمر بنا نساء القرية لإلقاء التحيّة - علينا أنا ووالدتي واخوتي عادة - باعتبار أننا العائدين من السفر، وأسأل الأسئلة المعتادة كل يوم من الجميع ، الكل يسألني عن إن كنت أعرفه أو لا أعرفه، ولا أدري إن كانو يتعمدون إحراجي بهذه الأسئلة لأننا لا نلتقي إلا كل عام أو أكثر، طبعًا سأجيب بأنني أعرفهم وإن لم أكن كذلك، يكتفي قلة منهم بهذه الإجابة بينما يتوسع البقية في طرح الأسئلة عن إذا ما كنت أعرف بالضبط صلة قرابتهم بي أو أذكر زيارتي لهم أو زيارتهم لنا في بيتنا في الخرطوم عندما كنت صغيرة" 8 سنوات أو أقل"، وإن طال الحديث أكثر ولم يكن لديهم عمل عاجل مثل احضار الحليب لشاي الصباح أو ما شابه فإن الأسئلة قد تصل إلى أسماء أدوات الطبخ التي ترك السودانيون استعمالها قبل الثورة المهدية، أو ربما عن الشخصيات والزعماء الذين لا يسمع الانسان العادي أسمائهم إلا ليلة امتحان التاريخ "إن لم يكن يدرس العلوم الإنسانية فقد لا يسمعه طيلة حياته"، حتى يختتم الحديث بسؤالهم المفضل "أحسن السودان ولا السعودية؟" فإن أجبت السودان أنكروا علي وإن أجبت السعودية أنكرو أيضًا فأتهرب من الإجابة بأي طريقة ممكنة..

وكنت أزور في بعض الأحيان مدرسة القرية التي تعمل بها خالتي، يعاملني أقراني بحنو وعاطفة مفرطة ممتزجة بشيء من الاستغراب والكثير الكثير من الأسئلة، لا أنكر أنني كنت أشعر في أحيان كثيرة بالوحشة لأنني ومهما حاولت لا أتمكن من العيش بهذه الطريقة السلسة البسيطة، لم أعتد هذا النمط من الحياة التي يتحرك فيها الجميع ويفكر كشخص واحد- ربما لطبيعة الحياة التي تعد فردية نوعًا ما خارج السودان- فأشعر في وسط هذه الأجواء وكأنني ذلك الصوت النشاز الذي يصدر من الاسطوانات القديمة مقاطعًا الموسيقا المنسابة. وهذا ما كنت أشعر به خارج السودان أيضًا، لطالما أردت أن تتوسط أقداري بين هذا وذاك وأن يكون عالمي مزيجًا بين هذه الحياة وتلك والأمر بالطبع سريالي ومستحيل..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟