وكأنه إذ ماتَ أخلَفَ ما وَعَد
محمودُ مات..
هذا كل ما يجول بخاطري الآن، قلبًا بكل هذه السعة ضاق بصاحبه وقتله، سجلت قصيد مريد في رثاءه لثلاث مرات متتالية وفي كل مرة يتسلل الضيق لصوتي وتسكن الغصة شفتاي فأعجز أن أُتمها، كيف غاب درويش، تعلقت بدرويش للمرة الأولى حين رأيته مصادفة على تلفزيون السودان يتحدث عن تعريب المصطلحات ويفاضل بين كلمتي "راديو" و"مذياع".
لا أذكر ما حدث بعد ذلك، ولا أذكر سوى أني وفي أصعب أيام حياتي، كنت أستيقظ في كل يوم مدفوعة إلى هذه الحياة بشعر درويش، أقرأ في كل صباح مئة صفحة أو أكثر لأستطيع إتمام نهاري، وعندما لا أجد وقتًا لأقرأ كنت أتخلف عن المدرسة ببساطة، كانت روحي متوعكة، أذكر بكائي الصامت على أريكة منزلنا في الرابعة فجرًا حين قرأت قصيدة درويش "إلى ضائعة" للمرة الأولى وقرأت
" وأومن أن شباكًا صغيرًا كان في وطني،
يناديني، ويعرفني، ويحميني من الأمطار والزمن"..
حملت هذا البيت في قلبي، احتملت لأجله مرارات الزمن، وحمّلته كل أمنياتي وما زلت أهتف به كلما ألمت بي نائبة من نوائب الدهر..
اقتنيتُ بعدها ولأول مرة ديوان لمحمود درويش "أعراس" وبعد ذلك اقتنيت دواوينه الباقية وفي كل مرة أتوه فيها ألجأ لشِعر درويش، أتجاهل حقيقة موته كيلا أتذكر أن هذا الشِعر محدود، مُنتهي وأن صاحبه ذهب إلى غير رجعة، وان وجَعي مازال حيًا، وأخاف أن ينفذ شِعر درويش كله ولا ينفذ وجعي..
أمر بين الحين والآخر بهذا المنعطف، أتشبث بإيماني وحروفي، ألهج بالدعاء ليُتِمَ الله روحي التي نقصت للأبد..
لكن كيف يمكن أن يموت درويش كله دفعة واحدة! وكيف يمكن أن تستمر الأرض في دورانها كسابق عهدها وكأنها لم تنقص للأبد، كأنها لم تُكسر كجذع آخر زيتونة في البروة الجليلية، كيف يستمر الفَراشُ في التكاثر والطيران بعد رحيل درويش ..
"مازلتَ تُوقِظ ُأوجاعي فَتُلهِمُني
وَتُوقِدُ الجَمرَ حتى في رَياحيني
يا عُنفوانَ فِلسطينٍ بأجمَعِها
وَيا فَجيعَةَ أهلي في فِلسطينِ
بَل يا فَجيعَةَ كلِّ الشِّعرِ في وَطني
والنَّخْلِ، والأرزِ، والزَّيتونِ، والتِّينِ
وَيا فَجيعَةَ حتى الطَّيرِ ، أعذَبِها
شَدْوًا.. فَجيعَةَ أسرابِ الحَساسينِ
تَحومُ حَولَكَ..تَبكي..مَحْضَ أجنِحَةٍ
مُرَفرِفاتٍ ، بِصَمتٍ جِدِّ مَطعونِ!"
أنا أتوعك قبل كل مناسبة لا أستطيع أن أُنكر فيها أن درويش مات..
رحم الله محمود درويش وغفر له وأسكنه فسيح جناته .
تعليقات
إرسال تعليق