هُنا حيث الوجوه حكايات..




 في الخرطوم، شوارع متشابكة لا تريد الوصول، نوافذ لا تطيق جدرانها، وحكايات لا تتسع لها الكتابة لفرط واقعيتها.

وفيها أنا. جنين أخرجوه من بطن أمه قبل أن تتم حملها، وأعادوه بعد أن كبر و تعلم كل شيء فضاق به المكان والمعرفة. 


وأنا تائهة.. أقف في عز النهار بفنجان القهوة بين كفيّ، و "الونسة" المحيطة بي من كل الجوانب، أغمض عيني وأخشى أن أفتحها وأجد كل هذا حلم من أحلام يقظتي، هذا العام الذي أكرمني فيه الله أكثر مما أستحق، نجوت فيه من حرائقي، تخطيت عذاباتي الصغيرة، وعبرت من الكتابة للحقيقة. ولعل كل ما يحدث الآن حولي لا يصيب في قلبي شيئا، مازالت ضجة الوصول تغمرني، "سلم الطائرة" في الخرطوم تقابله أغنية طلال مداح من محادثة وداد، أم كلثوم وقصيدة الهادي آدم والغد الذي يقلق راحتي. خمسة أعوام تقف أمام عيني كشبح عظيم لا أهابه، أعبر من خلاله، أتسلق الجدران العشر، وتراودني الرغبة الملحة في البحث عن منزلنا القديم، آخر المنازل التي سكنتها قبل ذهابي، أعتب على ذاكرتي، أحملها مالا تطيق فتنسى حتى البوابات التي خرجت منها قبل خمسة أعوام، الآن أواجه الحقيقة التي واجهتها في خيالي بمجازات لا تعد ولا تحصى، بقصائد محمد عبد الحي، قبل الوصول أهتف أردد " الليلة يستقبلني أهلي" وأتذكر موضعها في النص الذي سينشر قريبًا.. ابتسم لأن كتابتي تتحول واقعًا دون أن تقتطع جزءًا من روحي. 


أذهب للجامعة في اليوم الأول دون أن أتذمر من طول الطريق الذي استغرق- كفرًا بوحدات القياس - أغنيتين كاملتين لأم كلثوم وما يقارب المئة صفحة من رواية عنايات الزيّات " الحب والصمت". أتنقل بين ما تحكيه عنايات وما تحكيه إيمان مرسال عنها، وأقع في حبها كإيمان وأكثر، أهاب الوقوع في نفس أقدارها، كما أهاب أقدار درويش دائمًا..


أرى النيل لمرة أعدها الأولى بعدما محا الزمان كل ما سبقها، وأرتوي بغير شرب وأتساءل هل كنت غائبة ولو بنصف اختيار أو إرادة عن هذا كله؟ 

هل كان الدرب هيّن وأنا من ألبسته ثوب الصعاب؟ 

ألتقط صور للنيل والشوارع وشيء من المرارة في فمي لأنني بدوت كسائحة تزوره لأول مرة، أو لعلي بدوت كمن أتى ليقضي اجازته السنوية - نسبة لهيأتي التي لم تغربني كثيرًا هذه المرة - ، لأن من اعتاد محبة هذه الأماكن وألفها لا يلتقط لها الصور، لكنني فعلت لأرى هذه الصور كلما جن الظلام وتاهت صورة النيل من عيني وظننت للحظة أنه كان وهمًا مجازيًا أو حلمًا عابرًا..


 لأول مرة أجد في حقيقتي ما يغنيني عن التخيل..

أنتزع نفسي من الأحاديث التي تزرع في أيامي ورودًا وحدائق، من فنجان القهوة الذي أنهيته لتوي، من صوت التنبيه بانخفاض البطارية الممتزج بصوت أم كلثوم، من كل شيء لكتابة تدوينة لم تتسع لأي شيء مما رأيته. لأن الحقيقة دائمًا مخرسة، نصف الحقيقة فقط هي ما يمنحك الرغبة في الكتابة، وشح الحقيقة فقط ما يغري باختلاق المجازات.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟