خارج النص

 السادسة صباحًا 




على مشارف يوم مهيب. 

أحاول كتابة هذه التدوينة من وقت طويل، يتبدل عُنوانها بحسب الفترة التي أمُر بها، وهذا العنوان الأخير والذي كما أعتقد يُمَثِلُ طريقتي في العيش.. 

"خارج النص" العبارة التي استخدمها لأنتقل بأريحية من أقصى الجنوب لأقصى الشمال، والتي على وَزنها أصف وجودي هُنا "خارج المشهد"، وعلى وزنها أيضًا وَصَف إدوارد سعيد حياته "خارج المكان".. 

نَفَسي قصير جدًا في الكتابة، وفي الحياة أيضًا، وأظن أني أوقدت شمعتي اليتيمة التي وُهِبتُها حتى وَصلت للقعر، لآخرها، لكن بالرغم من هذا كله لم تساعدني في عُبور الطريق، استنفذتها في أول عُمري كَمَن يُنهي طبق الفشار الكبير جدًا قبل بداية الفيلم.. 

أتحجج الآن بأن ذلك ربما لأن صوت المضغ يُفسد عليه متعة المشاهدة، هكذا كُنت دائمًا، أُبرر كل ما أفعله، أتعايش معه وأحاول الشعور بما يجب عليّ أن أشعر به، بعبارة أكثر بساطة أنتقي شُعوري ولا أسمح له أن ينتقيني.. 

لكنني خاطَرتُ هذه المرة، ووليتُ وجهي تجاه القِبلة التي عَلقتُ على رحيلي منها كل أحزاني، حطّت أقدامي على عتباتها في الفجر كما تمنيت، تُهت في شوارعها كما رَغِبت، وأنتزعتُ منها شجاعة لم أرثها، ومضيت.. 

أراها الآن بعد مُضي ستة أشهر أجمل وأبهى، بعدما خفتت الأحاديث الوُديّة بيني وبينها، بعدما انطفت نيران الشوق، وهدأت كُل تلك الاسئلة القَلِقة، لم أجد فيها الإجابات التي قد تقودني لحقيقة نفسي، لكنني أجزم أني شعرت لأول مرة بِطَعم السؤال..

رُبما كان لُجوئي إليها هَربًا من حادثة ما، أو ربما لأني رأيتُها في آخرُ كُل كأس شربتها في حياتي، رأيت ذلك العطش إلى قطرة أخيرة، رأيت الأمنية المُعلقة في قعر الكأس، أمنية الجميع، بأن تزيد هذه القطرات قطرة أُخرى..

ولأني بقيت لفترة طويلة أُأَرِخُ أحزاني بفترات غيابي عنها، وأضع هذا السبب في دائرة كبيرة تخرج منها أذرعٌ أخطبوطية لكل مشاكلي، ظننت أنها ستكون المحطة الأخيرة، المشهد الأخير في قصة الحُب التي يرفضها الجميع، في سيارة مكشوفة يُغادر العرسان ونستمع فيما بعد لضحك أطفال، لعلي استعجلت نهاية هذا الفيلم أكثر من اللازم، مازِلتُ في عامي الثامن عشر!

لا أُدرك ماهو المجاز الذي يمكنني تشبيه نفسي به.. 

حمامة بأجنحة رماديّة كانت بيضاء قبل اعتناق صاحبتها كل هذه الاحتمالات؟ 

نضجتُ حتى احترقت وولدت من رمادي أنا العنقاء الخ والخ..

تعلمتُ الكثير من هذه التجربة..

أو غير ذلك من العبارات..

إنه قدري، وهذه حياة لم أَعتدها حتى هذه اللحظة، لكنني لم أشعر بأنني كُنت قريبةً من نفسي لهذا الحد في أي مكان آخر، أذكر آخر مرة خَبأتُ فيها حُزني في كتاب قديم دسسته تحت كُتب المكتبة، وتناسيتُ وجوده، طفح الحُزن من هذا الكتاب، وتسلل برفق إلى جُدران الغرفة، سَودّ غُرفتي، حرقها، وتسلل لروحي، محا كل ما يَدل على وجود حياة هُنا، محا كُلّ شيء.. 

حملتُ حُزني وجئت إلى هُنا، لفظته في أول فرصة عندما مَنَحتني هذا الأرض شجاعة غير مسبوقة، كان هذا دورها الذي لم أتمه، عُدت طواعيةً وارتديت هذا الحُزن، ثم خلعته، ثم ارتديته، ثم وقفت لعشر دقائق أمام نفسي وقررت خلعه للأبد، وفعلتها مُجللة بثورة هذه الأرض، ثُرت عليّ وعلى ذلك الحُزن التي نمت بذرته بداخل قلبي، قطعت هذه الشجرة، ومازال مكانها يستفرغ الدمع والدم، لكني فعلت.. 

في إحدى محاولاتي للتشبث بالحياة، خرجت إلى الحلّاق وقصصتُ شعري، وخرجت دون أن أنظر لمقدار الشعر المتساقط على الأرض، وفي محاولة أخرى ذهبت إلى مكان يعبق بالتاريخ، بالكُتب واقتنيت حكاية من شأنها أن تؤنس وحدتي، خرجت من المكان وأكلت في الشارع المُجاور، ثم ختمت زيارتي بمحل المثلجات، وابتعتُ لنفسي مثلجات الفانيلا والشوكلاته بالحجم العائلي، وفي كل مرة تَتَفَلت فيها الحياة من بين كَفيّ أُكرر هذا الطواف وهذه الرحلة..

أعرف كم تبدو هذه الأحاديث مُبعثرة ومُلغمة، لكن أظن أن عُنوانها قد يغفر لي هذا الشتات، هذا حديثٌ على هامش كُل شيء وقد يليله حديثٌ مُطَول عن العُذوبة والوَجَع.. 

آمل ألا تنطفئ شمعتي هذه، أن ينير هذا القَعر طريقي كُلّه، حتى ذلك الوقت سأُحاول العيش بقعر شمعة وضوء خافت مُرتجف وصادقِ جدًا.. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟