تسعة عشر عامًا من الحنين..

 ٢٤ يناير ٢٠٢٢

الساعة: ١٢:٤٣

أحفر جدران البُعد، وأنظر ببلادة لخِضاب الدم على أناملي، وأذكر عبلة التي أدمى كفيها حُب عنترة، وأدمى أناملي وقلبي" حُبٌ مُصابٌ بالسَفَر"، حقيقةً ومجازًا..

أُفتش في الديار على الديار، وأعُيد شريط الذكريات لأول مرة بكل هذا التمام والوضوح. 

في محاولتي لتوثيق أحداث عامي التاسع عشر - الفائض جدًا والممتلئ - تكسرت مرآة حكاياتي وتشظّت، وبدلًا من ذلك الصوت المزعج لتَكسُر المرايا والحكايات، خرجت رنّة مختلفة من كل شظيّة وهذه الكتابة كما يصفها نزار "رحلةٌ بين الشظيّة والشظيّة" .. 

وكانت أول شظايا ذاكرتي| مرآتي هي صوت موسيقا الراديو المنبعثة من مطبخنا منزلنا في الجريف، صوت إذاعة البيت السوداني FM100، ترافقه رائحة الطعام الذي ينضج على مَهلٍ، وضوء الشمس المتسرب من نافذة المطبخ.. 

ثم عودتي من المدرسة مُحملّة بالأغنيات، وأول أغنية تعلمتها في حصص الموسيقا كانت أغنية خواطِر فيل للنور الجيلاني، ولطالما شَغَل قلبي حال الفيل البعيد عن أمه، فرافقني حزنه وغربته في كل أطوار حياتي، وكنت أستدل على نفسي بمعرفة موسيقا هذه الأغنية فور سماعها، ولم أتوه عني إلا عندما استمعت لموسيقاها مُصادفةً ولم أعرفها.. 

أذكر تَعلُقي بعد ذلك بعددٍ من الأغنيات المُحملّة في "الكومبيوتر" القديم، "لما ترجع بالسلامة"، "طوّل مفارق حيّو" و "أمرك يا حلو"، وكان لكل أغنية من هذه الأغنيات وَقعٌ مختلفٌ على مسمعي، عُدت للاستماع إلى هذه الأغنيات مرة أخرى بغرض الكتابة.. 

تلك البداية التي سكنت أول عتبات لما ترجع بالسلامة أغنية هاتف معلمتنا، أدعو أن يكون غائبها قد رجع بالسلامة.. تحملني اليوم هذه الأغنية إلى معان مختلفة، قبل عشرة أعوام كنت أنظر للمُغنيّات "إيمان وأماني" بولعٍ شديد، أحاول إيجاد الاختلافات بينهُن، ابتسامة مائلة بزاوية ما لدى إيمان، أماني أكثر تبسمًا، لعل احداهن تزيد عن الأخرى ببضع كيلوات، أنظر للتنورة زاهيّة اللون، وحجاب الشيفون الشفّاف والقفازات المخرمة والتي كانت الجزء الأجمل بالنسبة لي، اتساءل بحِيرة في كل مرة كيف يعزف عوض احمودي بهذه الرِقة وهو أعمى، ولا أذكر أني حصلت على إجابة مقنعة، أحفظ الأغنيات وأرددها وأعيد تشغيلها كلمّا فتحت جهاز الكومبيوتر...


أستمع اليوم لهذه الأغنيات مرةً أخرى بغرض كتابة هذه التدوينة، أُحلق مع كلماتها، أتأمل في قول الشاعر"يوم رحيلك يا حبيبي شفت كل الكون مسافر"، أكرر المقطع مبهورة بهذا المعنى البسيط المُحبب والمُعبر، واتساءل عن الحبيب الراحل الذي حَمَل في حقيبته كل الكون، عن عُيونه الضحاكّة الباكية في لحظة الوداع .. ابتسم لآخر عبارة في أغنية "طَوّل مفارق حيّو" الأغنية التي تَصِف مِقدار الفراغ الذي خَلّفَهُ المحبوب بمُغادرته الحي، يقول الشاعر في آخرها أن غياب المحبوب"مَسّخ علينا الحِلّة"، أي جعلها بلا طَعم مثل الطعام الماسخ عديم الملح..


تقودني ذاكرتي للاستماع لأغنيات غنّتها ميّ عُمر نجمة برنامج" نجوم الغد"، وأول هذه الأغنيات كانت "من الأعماق"، انتبه لأول مرة لعذوبة الكلمات في آخر الأغنية

"أحنو عليك وتَحنو عليّا

ونملأ الدُنيا نغم وحنيّة "

والمناجاة العذبة في قول الشاعر

"حِلمك حِلمك

أنا مُضناك"

أُعيد التأمل في معاني هذه الأغنيات، وتَجرني كل أغنية منهن لأغنية أُخرى وذكرى أُخرى، ل"أَسمر جميل ما حنّ عُمرو" و"أغلى من لؤلؤة بضة"، أبكي أحيانًا وأندهش في معظم الأحيان..


وأذكر فترة انقطاعي الطويل عن الإستماع للاغنيات السودانية، وكيف أعادتني مدائح الصوفية في رحلات العُمرة الطويلة لسودانويتي التائهة، إلحاح روان عليّ لأستمع لأغنيات مصطفى سيد أحمد، اكتشافي لعذوبة عبد العزيز العميري، ورِقة صوت نانسي عجاج..

ومحاولتي لجعل كل هذا يتسق مع حُبي لأغنيات حسين الجسمي و حنين طلال مداح المزمن، و شوق عبد الكريم عبد القادر وعتبه الذي لا ينتهي..

وأُصادف مَرةً توفر نسخة من كتاب الطيب صالح "في رِحاب الجنادرية وأصيلة" فأقرأ ما كتبه الطيب صالح عن عذوبة "مساعد الرشيدي" و "خلف بن هذال"، وحديثه المُطول والتلقائي جدًا عن جماليات الثقافة الخليجية ويمزج حديثه عن الشعر النبطي في الخليج بالشعر النبطي السوداني، ويريني مَرةً أخرى كيف يكون الإنسان بقلبه وحنينه الدائم أعظم من قَدره الجغرافي؛ فيُعيد الطيب صالح كعادته ترتيبي، ويمُد جسرًا متينًا بين الهاويتين، أمشي على جِسر الطيب صالح آمنة مُطمئنة..


لطالما شعرت بأن ارتباطي بالوطن هو ارتباط عاطفيّ بحت، ارتباط تُشكله الأُلفة والتعلق، كان ثبات فِكرة الوطن فيّ كفيلًا بتثبيتي، فهُناك دائمًا مكان آخر يُصبح فيه كُل شيء أفضل، مكان يرتبط دائمًا في ذاكرتي بالنعيم الأبدي، لكن هذه الصورة الجميلة والعظيمة سالت وتشوهت عندما أدركت أن الوطن الذي أحمله في ذاكرتي هو "ما لا يُزار" لأنه وقتٌ، أو بتعبير آخر لأنه مَشهدٌ متكامل، تستحيل العودة إليه مرةً أُخرى، بعد رحيل آدم من جنة عدن - حيث اليقين الذي لم يتعب لتحصيله- نزل إلى الأرض باحثًا عن يقينه، عن حواء.. وعُدت أنا مرةً أُخرى للمكان الذي تركته، باحثةً عن يقيني، وما زالت رحلة البحث هذه مستمرة، وعامرة بالاكتشافات.. 


لو كان بإمكاني تلخيص هذه الرحلة في ثلاثِ محطات، ستكون أول هذه المحطات اقتباس درويش 

" وأومن أن شباكًا صغيرًا 

كان في وطني 

يناديني، ويعرفني، 

ويحميني من الأمطار والزمنِ" 

وكانت المحطة الثانية هي رحلة البحث عن هذا الشُبلك في المؤلفات والحكايات السودانية وعلى رأسها كتاب أبو القاسم حاج حمد "السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، وكذلك كتب "جمال محمد أحمد" وبالطبع حكايات الطيب صالح..

أما المحطة الثالثة والأخيرة كانت محطة الإدراك 

المحطة التي أدركت فيها استحالة العودة، وعرفت فيها حَقيقة الغربة "اللانهائية والأبدية"، كانت هذه المحطة هي كتاب إدوارد سعيد" خارج المكان ".. 


أقتبس هُنا ملاحظات من قراءتي للكتاب 


"لطالما تحدثت طويلًا عن اللامكان، أو عن الجسر وهو المكان اللامنتمي، وعن اتخاذي إياه سكنًا ومأوى..

ولعل انتقالي الجُغرافي إلى الضِفة الأولى - الوطن - غيّر مكان السُكنى؛ فأصبحتُ اليوم داخِل المكان وانحلّت هذه العُقدة لكن ولّد الغيابُ عُقدة أخرى وهي محاولة اللحاق بالمشهد، فالدخول إلى المكان أَيسر بكثير من الدخول إلى المَشهد.

والمشهد لو أردت تعريفه هو اتحاد الزمان والمكان، 

وكأن المشهد قطارًا مُتعدد العَربات وكلما بَلغت عربة منها وجدت كل اركان المشهد تَقدمت للعربة التالية في سباق لا سبيل لنهايته.

حين يَحنو علي أحدهم ببديهية؛ فأنا خارج المشهد بملاحظتي المبالغ فيها لحنوه، بإشفاقي على ذاتي لغياب بديهيتها ولعجزها عن مواجهة الحنو وتلقيه دون تفكيكه..

يقول إدوارد سعيد :

"لا يفطن الانسان كيف يمكنه أن يشتاق لاماكن لم يزرها ولحيوات لم يعشها فقط لانه يعتقد أنه ربما كانت أكثر شبهًا به مما عاشه وأكثر التصاقًا بروحه مما يعيشه" 

هكذا عَرف ادوارد سعيد وألف شعوره بالوطن وبالديار في القدس بين من يشبهوه، وكره شعوره بالغربة والاستيحاش في القاهرة بين المختلفين عنه، وفي كل مكان كان يشعر إدوارد سعيد بعدم الإنتماء التام، كما نشعر حيال لون غير متسق تمت اضافته للوحة بعد أن جفّت وأكتملت..  

 ادوارد سعيد كان خارج المشهد في طفولته بسبب علاقته بوالدته، والتي كانت تحاول أن تجعله يرى العالم ويقيم فيه من خلالها، ومن خلال علاقته بها.. 

كانت هذه هي غربته الأولى..

والتي كَبُرت وإزدادت عُمقًا بعد أن أدرك أنه فلسطيني بجنسية أمريكية، وإن الحديث عن غربة الفلسطيني أعتى واصعب من الحديث عن أي غربة من نوع آخر فالفسطيني يرث قضيته وغربته و"يختارِ اضطرارًا لكي يُصدق أنه حرٌ" كما يقول مريد البرغوثي.. "


قادني محمد وردي لهذه الكتابة الصريحة عندما استمعتُ لأغنيته" ما تخجلي" وفي رواية " ١٩ سنة ".. 

ارفق رابط هذه الأغنية وأترك لك مُتعة اكتشاف باقي الأغنيات المذكورة في التدوينة.

https://soundcloud.com/obaicj5/19a-1?ref=clipboard&p=a&c=0&utm_source=clipboard&utm_medium=text&utm_campaign=social_sharing

وعد محمد. 

 

تعليقات

  1. انتي نبشتي جروح غائرة في مسارب الروح بطريقة وغدة بس ما مشكلة يا ذات التسعطعشر ربيع🦋 ووالله جمال جمااال ابهجتي قلبي والله💘💘 وشكراً لحرفك الفاتن يا وعد💖💖

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟