كيف أنساكِ؟



إلى البلاد
كيف يمكن أن نعتاد غيابنا عنك؛ كيف يمكن أن نرى تحوّلك المخيف من مكان وحياة" نهوي عديلها ونرضى صعابها"؛ لحمل خُرافي ثقيل؛ تضيف عليه الذاكرة تفاصيلًا مشكوكًا في صحتها يومًا بعد يوم، كيف يمكننا أن نختزل بيوتك الواسعة في حقائب النزوح الضيقة؟ 
"إلي أين نمضي بعدكِ
والشواطئ قبلة منتحلة" 

في هذه الليلة، أفتش كعادتي في ختام كل يوم عن أغنية جديدة، ربما تعييني على معرفتك أكثر؛ اتساءل متى أصبح كل ما نعرفه عنك سرابًا مُخاتلًا يغشى عيوننا قبل النوم، وحُلمًا رماديًا في ساعات الفجر الأولى، متى احتّلت كُل تلك الأغنيات هذا المكان في قائمة التشغيل.. 
ومتى أصبح سُهادي آية محبتي لك، أنا التي صاحبت طيفك ليلًا ونهارًا، وأنشغلت بخيال محبتك عن حقيقتك، آلمني بهاكِ، وأعمى عيني نورك، وامتلأ قلبي بخوف فقدك فانشغل بخوفه عن معرفتك والاستئناس بك.. 
لكننا لم نتأخر.. مازال في العمر بقيّة؛ لأعرفك وأكتبك، ربما لأن الوقت لا يمضي سريعًا في انتظارك..

أتبع أغنياتك لأننا شعب "يقطف الموّال من أقصى العذاب" حكاياتك وظلالك تخرج من كل مكان؛ اليوم فقط أصبحتِ أكبر من اللوحة المُعلّقة على جداري، أكبر من الخارطة وأكبر من عمري بمئات السنين..

يغني في هذه الليلة الطويلة صلاح ابن البادية نحن سافرنا وبعدنا ما عرفنا هواك بعدنا.
الأغنية التي يمكنها أن تصف ببساطة شديدة علاقتي بالبلاد والحُب والحياة.. 
"ما عشقتك لجمالك
انت آية من الجمال
أو هويتك لخصالك
انت أسمى الناس خصال
أو لروحك لدلالك
انت هالة من الجلال 
الفؤاد دايمًا بنادي
في اقترابي وفي ابتعادي
ليك لأنك من بلادي"

أقطف موّالك من زغرودة امرأة في تسجيل شوك الشوق لمصطفى سيد أحمد؛ أقطف صورتك من تسجيل ليلة بهيّة مرت وانقضت قبل عشرة أعوام، غنى فيها أحمد بركات الزين" الليلة سار يا عشايا "، أغمض عيني فأرى الناس جلوسًا في حوش واسع على الكراسي الحمراء المُذهبّة، يتوسطهم المُغني محتضنًا عوده.. 

أقطفك من العيون، في الونس الذي يحيط "أولاد كسلا" وهم يغنون "يوم أفارقك ليلة واحدة"..
وأقتفي أثرك في لحظة طرب ووجد في شارع من شوارع بحري - يوحي ظلامه بانقطاع الكهرباء - يغني فيه محمد دفع الله "جافي المنام لاسعني حي "، تشق آهات السامعين سكون الليل، وترسو قبلة عفويّة على رأس المغني .. 

أراك في شجن أغنيات الشايقيّة، حين تفتق رنة أوتار الطنبور خيط الجراح؛ يغني النصري" ما نحن يا شبه البدر وارثين من أيوب الصبر" وحوله يتساقط الرجال من الوجّد، في ليل يمتد بلا نهاية في حفلات عقد الجلاد، في وجوه المُغنين، يهدهدون خوفك 
 "أعرفي إنك الزمن الي جاي شروق
وأعرفي إنك الزمن الحبيب وحنون" 

في الملاحم التي سطرتها النساء لتوثيق شجاعة فرسان مهيبين؛ في صفات النبل والكرم التي تتناسل جيلًا بعد جيل، جسدوها رجال في أزمنة وأماكن مختلفة.
في أغنيات "حميرا"، عن ناظر العبيدية مختار ود رحمه، في تراث كردفان عن الجنزير التقيل ود توينجة، وعن" خال فاطنة " الفارس نقد الله الركابي..

تعلمت الكثير عنكِ بعد الحرب، لا أخجل من جهلي، لأني أعرف أن معرفتك لن تكافئ عيش تفاصيلك، و أعرف أيضًا أن محبتي لك لا تتكئ على علم أو معرفة..
أحاول فهمك لأفهم نفسي، أحاول دخول مشاهدك كلها ومُعايشة تفاصيلك التي لم يتسع لها العُمر؛ أعيد قراءة "حوش بنات ود العمدة" و" بعض من هذا القرنفل"، سعيًا خلف زمنٍ مفقود عرفه أبناء جيلي بشكل أكثر عفويّة وحُنوًا.

لكنها مُحاولة علنّا نوالف الحُزن ونتناسى الرحيل والليل..

الخبر - المملكة العربية السعودية
10/7/2024

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر