انقطاع




التاسعة مساءًا 
الإثنين ٢١ نوفمبر ٢٠٢٢ 
أقرأ رواية المترجمة ل ليلى أبو العلا، بعد أن وجدت نسخة منها مصادفة في قروب نادي قراءة النيرفانا على تلقرام..
أُحادث صديقي وأخبره أني أعدّتُ اليوم نبش جِراحٍ لم تندثر، فيجيبني ساخرًا "براك هبشتي" مما يعني أني من أمسكت بالمعول وبدأت بحفر أعماقي..

أتدثر بالتوب وأقرأ، أُحس برعشة الحُمىّ عند منتص الليل فأكشف غطائي، وأبرد في عز النهار فأُعيده، أمر على مهام اليوم بشرود وأعود في فواصلها لأقرأ.. على كراسي الانتظار في عيادة الأسنان أقرأ، أراقب قهوتي تفور على النار وأقرأ، أُصلي وأقرأ على السجادة.. 
يتسرب ضوء الشمس من النافذة القريبة من السرير، أبحثُ عن "قارئة الفنجان" بين الأغنيات وأُشغلها فيمتزج صوت عبدالحليم بحكاية سمر.. 
يُغني عبدالحليم لسمر التي تعاني أوجاع الحُب 
" فبرغم جميع حرائقه وبرغم جميع سوابقه
وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار

وبرغم الريح وبرغم الجو الماطر والإعصار
الحُب سيبقى ياولدي.. أحلى الأقدار "

هل هو كذلك حقًا؟ 
وأغرق في حكاية سمر، التي رأت الحياة كاملة في حكاية واحدة، لم تكن شُربة من النيل بالرغم من استعذابها لماءه الذي يُطفئُ الشوق، ولم تكن حكايتها هي الوطن، وقد كان أحبُ إليها من كل شيء وأعذب، لكنها كانت حكاية أكثر استحالة وخصوصية، كانت محبة أينعت في قلبها، فأنبتت حولّه أشجارًا تطلب الماء، حتى بعد أن جفّ النبع وتيبسّت الصنابير. 
ولم أؤمن بأن الماء سيعود، لكن سمر آمنت، ونالت بقدر إيمانها..
"وكأن عهد الحُب كان سحابة
 عاشت سنين العمر تحلم بالمطر" 

السادسة مساءًا
الكهرباء مقطوعة، عند سمر التي ذهبت لزيارة أخيها، وعندي هُنا في الجزيرة، في البيت الأول، يوَلّد انقطاع الكهرباء تجمعًا لطيفًا بين أفراد الأسرة، في باحة المنزل، بعد توقف المراوح والأنوار، لم بوسعي التغيّب عنه، بالقدر نفسه لم أتمكن من مغادرة الحكاية قبل أن تتم، استقيظت من هذه الغيبوبة اللحظيّة على صوت خالتي فخرجت من الغرفة، وأتممت القراءة في الخارج، ولا أسمع من الأصوات المتداخلة العالية، إلا صوت الحزن، في قلب سمر التي أنهكها الانظار، حتى دَق المريود بابها وصَبّت له "البيبسي كولا" المُثلج في كوب، وهي تراقبه وهو يشرب من كوبه وهي ترتوي بالنظر إليه.. 

ربما لو قرأت هذه الحكاية قبل عام من اليوم لعجزت عن الوقوف على قدمي لأيام طويلة، لأن حكايات تحملّ هذا الشبه اللصيق بحكاياتي وهواجسي كانت ستأكلني وتُجوفني حتى يصبحُ داخلي خاويًا فلا أقوى بعدها على العيش حتى يمتلئ .. 

لكن قراءتي لهذه الحكاية في هذا التوقيت وفي هذا المكان جعلني مُحصنة من الانهيار، لكنه لم يحجب عني الشعور بالشرود، وإعادة التساؤل عن حكايتي القديمة، هل كان يمكن أن تنتهي بنهاية أقل حدّة، أم أنه كان من الواجب أن تسقط كل آمالي على رأسي وأن أنهض مجرجرة أقدامي من رُكامها.. 

اليوم وبعد أن انتهت آخر صفحات رواية "المترجمة"، الرواية التي نُشرت أولى طبعاتها في عام ولادتي، شعرت بجدوى الحكايات، كما كنت أشعر بها في عامي السابع عشر، قبل أن أواجه ما سيجعلني أُقرّ بعدميّة الحكايا، وقبل أن تُصبح جراحي هي الحكايات التي ليس بوسعي روايتها، اليوم عاد إيماني بكل شيء إلى أولّه، وأنا أرمش بعيني لأنفض دمعها قبل أن يلاحظه المتسامرون حولي؛ تسللت من الجمع، وجلست وحدي في الغرفة المظلمة، أخيط جراحي، وأُهدهد شوقي للبلاد وأهلها، هذا الشوق الذي لم يسكن باللقاء. وأرتوي بشعور المواساة لما آلت إليه حكاية سمر، وأطوي حكاياتي القديمة بابتسامة هازئة، أُعيد تغطية الندوب التي كشفت ليلى غطاءها، وأناجي الله أن يبرأ جرحي، وأن أقرأ ليلى مرة أخرى، وأن ألقاها يومًا ما لأُخبرها بما فعلت بي هذه القراءة، إذ "غادرتُ ومازال لساني مصلوبًا بين الكلمات" .. 

*الصورة المرفقة من عيد ميلادي السابع عشر
٢٢- يناير - ٢٠٢٠

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟