لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى


تدوينة العام العشرين

عشرون خريفًا، كان آخرها سيلًا، أغرق كل ما ألفته عني وكل ما بدا لي باقيًا، تفسخ طلاء البهاء وبان صدأ الآمال والعلاقات، غرقت دُروبي غير المرصوفة، والتي ظننت بسذاجتي أن محبتي ستقيها شرّ المطر.. 

"خفيفةٌ روحي، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان" 

في المنزل الأول، أُغني على ليلاي، أنظر للعمر المتسرب من بين كفيّ، أُفتش في الديار عن الديار، وأحاول أن أُؤجل عذابات الهويّة، وأحاديث الإغتراب؛ لعام آخر كمن يُغلق الباب بظهره من الطوفان، الذي يعلم يقينًا أنه سيصله في وقت ما. 


وأنا أُحاول حلّ حبال تربط أقدامي وتُدميها، أحاول تحرير يدي لأكتب، لأروي عن اضطراري لمغادرة كل ما أطمأننت إليه، والبكاء على أطلالٍ قبل أن يجف دمع سابقتها، وأنا أنا لا شيء آخر، تشدني السكك العمياء، أتبع قلبي، وهاجسي، وأحاول ألا أحيد.

" ولم نزل نحيا كأنَّ الموتَ يُخطئنا،

فنحن القادرين على التذكُّر قادرون

على التحرُّر، سائرون على خُطى

جلجامشَ الخضراءِ من إلى زَمَنٍ." 



أحرقت البساتين التي لطالما غرست أشواكها في قدميّ، ورأيتُ قطار العمر يمر مُسرعًا أمام عيني، وهو يحمل الأصدقاء والأحلام، وكأن الحياة التي زرعت الورد في كفيّ في بداية هذا العام؛ عادت لتقتلع زرعها وتدميني، يغادر الأحبة؛ وأنا أهجس أني رعيت ودادهم، وأُشهد الله أنهم رعو ودادي أيضًا، لكنها ممرٌ وكدر..


"وأَورثوني بُحَّةَ الذكرى على حَجَرِ الوداع، ولم يعودوا.."


يؤذيني هذا العمر الذي يطغى نشازه على نغمه، وتوجعني هذه الأحلام التي لا أقوى على حراستها، هذه الفرص التي يغتالني تعبي قبل أن أصل لمُنتهاها، كالعداء الذي يسقط مغشيًا عليه قبل الخطوة الأخيرة التي تفصله عن خط النهاية. 

أسقطني هذا الهلع الذي يسكن جنبيّ كلمّا أوشكت على الوصول، لم أسقط في غفلتي، ولم يوقظني كابوسي من "عز النوم"، لكني سقطتُ على مهلٍ، وجرجرّت أقدامي وأنا أنهض من ركام الأحلام، من أنقاضها، وأنفض عن ثيابي غبار أُمنياتي، وأحاول أن ألفظ باقيه من رئتي فلا أقوى على لفظه كاملًا، يبقى منه ما يُذكرني بحسرتي كلما هممت بأخذ نَفَسٍ أطول من اللازم، كلما اطمأننت للورد المزروع على كفيّ، وتناسيت الشوق والشوك. 


مازلت لا أدرك إن كان حديثي المعتم هذا صالحًا لاستقبال عاميّ الجديد، لكن ما أدركه هو أني باقيّة، وأني سأُغالب هذا الشوك، سأكون أكثر حذرًا، سأتقيّ الجمال، حتى لا تكسرني هشاشته، لن آمن للورد المزروع على كفيّ، ولا للونس المُصاحب لفنجان قهوة، لن أتكئ على قصيدة، ولن أسمح بعد اليوم لأن يغلبني الشوق لمنازل غير موجودة، ونوافذ مغلقة، وأصدقاء تُدير الدُنيا وجوههم عنيّ، سأخوض حربي وحيدة، لأني أختار خوضها ولأني أريد كسبها، ولن يكفيني منها المحاولة، ولن يعذرني إلا الموت..

"وحدي أُفتِّشُ شاردَ الخطوات عن أَبديتي"


 في عامي العشرين، وجدت كل ما بحثت عنه، وفقدته قبل أن أستطعم حلاوة النوال، أنتزع من قلبي ومن عيني كل ما أردت دوامه، رافقني الفزع وتقطعت بي السُبل، أدركني الله بواسع رحمته ونجوت. 


أدعو أن يجعل الله هذا العام كفارة لما قبله، وأن يرزقني الهدى والطمأنية في الأعوام التالية.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟