حروب موازية
استهل محمد عبدالرحمن نصّه باقتباس من شعر محمد عبدالباري
"نُريدك يا كل حصتنا في السكوت لأن الكلام يخون"
جَرَت بقيّة الأبيات على لساني بسهولة ويُسر؛ في ختام اليوم وجدتني أعود مرة أُخرى للتفكير في هذه الأمنية، وبدا لي أني فهمت هذا البيت وهذه الأمنية لأول مرّة ..
أنا الطفلة الثرثارة أُريد اليوم كل حصتي في السكوت، أريد أن أقف متجاهلة كل ما يمضي، أن أعطي ظهري للنار التي تأكل الخرطوم و تأكلني، وأن اتجاهل رائحة الحرائق المتصاعدة، وأن أقف ساكتة.
تنكمش كفي كلما جرّها قلق خفي في قلبي لمهاتفة الأصدقاء والسؤال عن حالهم، في أيام اصبحت المكالمة غير المجابة أكثر ما أخشاه!
وأنا أنظر للحرب البعيدة عن عيني، بهلع من لا يُصدق، أكذب عيني وقلبي حين أرى ظلال مدينتي الخَرِبة في نشرة الأخبار، وأفكر بسذاجتي أن إجازة العيد في الجزيرة ستنتهي في وقت ما، وأني سأعود لأجد كل ما تركته على حاله، أُسلّم على الأصحاب وأشاركهم فناجين القهوة، أذهب وأعود من الجامعة، ولا أحمل همًا غير همّ الامتحانات أو هم الحُب - كما قال أستاذنا عماد بابكر-
أُحاول أن اطفئ القلق بالأعمال المنزلية، أتورط في قلقي إن طالت مُدة طهي طبق ما، فأبحث عن شيء آخر لأنجزه، وتغشاني الهواجس في انتظار غليان القهوة؛ أسرح فتفيض القهوة وتنسكب أنشغل بتنظيف مكانها عن شربها، أنسى أن أُعد غيرها فلا ينساني صُداعها..
أذكر درويش حين كتب في "ذاكرة للنسيان" كيف حرمته الحرب من تذوق كوب القهوة، ابتسم هازئة، أنا لا أطلب مُتعة فنجان القهوة، ولا يرقى طلبي لتمني روتين يوم عاديّ، أنا أريد أن تسكت هذه الأصوات الهادرة في رأسي، أن يسكن القلق. أغمض عيني وأطلب من الله كُل حصتي في السكوت، وأحاول ألا أروي ..
أُشغل حاسة السمع بالقصائد والأغنيات دون أن أنتبه لما يُقال فيها، وأمُرُ بعيني على سطور قصة أو رواية أنسى شخوصها كلما قلبت الصفحة!
أُقلب نشرات الأخبار من قناة لأخرى، تخرق أُذني أسماء معدّات الحرب، أنواع الطائرات والأسلحة، وخبر سقوط قذيفة في مستشفى .. أسمع ولا أعي، يتبادل جنرالات الحرب التهم والشتائم، يتعجب ضيوف القنوات من عبثية هذه الحرب، ويدور الحديث دائمًا عن هدنة لا محل لها في الواقع.
كيف قررّو في لحظة أن يسلبونا كُل شيء، وأن يهدّمو بيوتنا، أن يُغيبو بسمة رفاقنا، وأن يُطفئو شمعة عيدنا مثل كُل عام!
آوي لفراشي في ختام اليوم، يتصاعد القلق في أول الليل ويخفت في آخره؛ أغمض عيني حينها، وأهدهد الحمائم القلقة، وأعِدُها أن الصبح سيعود كُل شيء لمحلّه ،وسأنالُ حصتي في السكوت وستنال حمائمي حصتها من الطمأنينة..
تعليقات
إرسال تعليق