درويشيات - لا تعتذر عما فعلت
الليلُ ليل وأم كلثوم تُغني أنت عُمري وتتساءل لماذا لَم يُقابلها هواه بدري؟
وأنا كما يقول درويشي وشيخي
"ينقصني، لأعرف،
فارقٌ بين المسافة والطريق،
وفارقٌ بين المُغني والأغاني... "
أقرأ لدرويش " لا تعتذر عما فعلت" وأرى لأول مرة وجهًا لم ألحظه من قبل في شعر محمود درويش..
كان يطيب لي تقسيم شعر درويش لمراحل ثلاث
الثوري المُباشر
شعر الجمال والحب
محاورة الحياة والموت
فأما الثوري المُباشر تُجسده قصيدة درويش الخالدة مديح الظل العالي وما سبقها من دواوين، أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، أعراس الخ..
- ثم الحُب في شعر درويش - مع التأكيد على الفارق العظيم بين شعر الحُب وشعر الغزل - فإنه يتجلى واضحًا في دواويين درويش الباريسيّة وبالذات في ديوانه "هي أغنية هي أغنية"..
- وأخيرًا محاورة الموت والحياة فإنها مُقسمة بين النص الشعري وهو الجدارية والنص النثري "في حضرة الغياب"
بعد كُل هذا الاستطراد
أعود لديوانه "لا تعتذر عما فعلت"
لأجد فيه تجسيدًا واضحًا لمرحلة النضج الفكري والعاطفي والشعري لدرويش، في الصور والكِنايات وحتى الأفكار وهي مرحلة العودة؛ ما بعد الجدارية.
نرى فيها حنين درويش إلى شعراء غُرباء عن زمانهم مِثله
" أمل دنقل والسيّاب وسليم بركات"
وإعادة صياغة لمفاهيمه عن الخلود والنسيان والوطن والمنفى.
نقرأ مثلًا قصيدته "أَنزِل، هُنا، والآن"
"أَنزلْ، هنا، والآن،
عن كَتِفَيْكَ قَبْرَكَ"
يُخاطب درويش نفسه ويأمرها أن تتخلىّ الآن عن رمزيّة الموت والنهاية.
"وأعطِ عُمْرَكَ فُرْصَةً أخرى لترميم الحكايةِ
ليس كُلُّ الحُبِّ موتاً
ليستِ الأرضُ اغتراباً مزمناً"
يُبعدها - نفسه - هُنا عن عقائدها القديمة عن الحُب الميؤوس منه و عن الإغتراب المُزمن واللانهائي
عن" موتٌ آخر وأحبك "
وعن "وطني ليس حقيبة"
"أو تحسَّ وأنت مُسْتَنِدٌ إلى دَرَج
بأنك كنتَ غيرك في الثنائيات"
أن تتحرر الآن من كل ما كنت تستندُ عليه لتعود إلى نفسك، إلى رؤاك ومن رؤاك إلى خُطاك..
"فاخرج من ((أنا)) كَ إلى سواكَ
ومن رُؤَاكَ إلى خُطَاكَ
ومُدَّ جسرَكَ عالياً،
فاللامكانُ هُوَ المكيدةُ،
والبَعُوضُ على السياجِ يَحُكُّ ظَهْرَكَ،
قد تذكَّركَ البَعُوضةُ بالحياةِ!
فجرِّبِ الآنَ الحياةَ لكي تُدَرِّبكَ الحياةُ
على الحياةِ،
وخفِّف الذكرى عن الأُنثى
وأَنْزِلْ
ها هنا
والآن
عن كتفيكَ... قَبْرَكْ!"
بعيدًا عن" أنا من هناك أنا من هُنا ولست هُناك ولستُ هُنا" يقول لنا درويش صراحةً " اللامكان مكيدة"..
ويدعو نفسه لتجربة الحياة والتخفف من حمولة الماضي، وقلق المُستقبل، بعيدًا عن رؤي درويش الحالمة بالخلود يعيد درويش في" لا تعتذر عما فعلت " عيش الحياة كما يليق بشاعرٍ مُتمرسٍ، بكامل نُقصانها، بعد أن نسيّها في خضمها..
كما نرى تحّول مفهوم الغُربة والإغتراب بعد ذلك في ختام قصيدته " سقط الحصان عن القصيدة" والتي تُحيلني بشكل آو بآخر لديوانه الذي أرخ فيه سيرة خروجه من البروة الجليلية" لماذا تركت الحصان وحيدًا" وبقيّ الحصان وحيدًا كآخر أوتاد خيمة عامرة..
حتى سقط الوتد وانهارت الخيمة على رأس صاحبها.
"سقط الحصانُ مضرجًا بقصيدتي
وأنا سقطتُ مضرجًا بدم الحصان.."
نرى عتبه المُرّ على بلاده، التي لا يمنعها الدم والوجع من التوهج، في نار يرى البعيد نورها ويختنق أهلها بدُخانها.
"وبلادنا، في ليلها الدمويّ
جوهرة تشع على البعيد على البعيد
تُضيءُ خارجها...
وأما نحن، داخلها،
فنزدادُ اختناقا"
أظن وأزعم ان كل قصيدة من قصائد هذا الديوان بالتحديد هي قصيدة جديدة تمامًا، يسعنا بسهولة أن نرى فيها تحَوّل مفاهيم كبيرة في شعر درويش..
في قصائده من" لا تكتب التاريخ شعرا" وحتى" تُنسى كأنك لم تكن" و" لبلادنا"؛ نرى تحولًا حقيقيًا في مفاهيم الوطن والمنفى و الإغتراب والحب والموت والخلود.
"تُنسى كأنك لم تكن شخصًا ولا نصًّا، وتنسى.."
تعليقات
إرسال تعليق