سفر العمر

.

لمصطفى سيدأحمد 

لا يسعني أن أتخيل صوت السودان كُلّه إلا في حنجرة مصطفى سيدأحمد!

والذي أردد دائمًا أني أحُس أنه يغني لي وحدي، لوحشتي في الأعياد في شقى الأيام "وأصابح بكرة كيف العيد وعايش فرقتك هسّه"، لأُنسي وصفاء بالي في الصباحات أترنم بالصباح الباهي لونك، لعودتي ظُهرًا من الجامعة رفقة راوية؛ نتناسى حرّ انقطاع الكهرباء ونتخيّر تسجيلاً مختلفًا للسمحة قالو مرحلة.. 

كيف يمكن لعاقل ألا يطرب للسمحة قالو مرحلّة ؟! 

لا أظن أن ذلك ممكنًا!

من أغانيه العالقة بذاكرتي في أيام الصِبا، إلى رحلة الاكتشاف المستمرة، لنوراي بت العرب النوبيّة، وزهرة الصبّار، انتهاءً بشعر حميّد الذي يفيض سحرًا وجمالاً في حُنجرته، يا مطر عزّ الحريق، ياجمّة حشا المغبون. 

من كل ذلك بدأت قِصة العشق.. 

صوت الدار مصطفى، ضِلُّنَا المرسوم على رمل المسافة، صوت البَلد، يكفيني صوته المتسرب من حافلة مواصلات لأختارها مُغمضة العينين دون غيرها، يُغني مصطفى فأنسى دون جُهد المقاعد اليابسة غير المريحة، الشمس الحارقة، الحرّ الخانق.. كل ذلك يتلاشى حين تنبعث نغمة ضجة الشوق ويشدو مُصطفى "في عيونك ضجّة الشوق والهواجس" والحافلة تقطع "كبري السلاح"؛ يروي مشهد النيل قلبي وعيني؛ فيذوي كل ضيق ويخفت، وتتسرب "ريحة الموج البنحلم بيهو بي جيّة النوارس". 

تُمسك ذكرى الأغنية بكفي لترجعني لأيام المرحلة الثانوية؛ حين كانت جلسات الرفاق محطّات حنينة قصرت مشوار السفر.. في دائرة صغيرة في باحة المدرسة نجلس أنا وملك وروان نُدير حوارًا لذيذًا بلهجتنا، نضحك ملء قلوبنا، تُدندن روان، وتوقعني في حبال عشق مُصطفى؛ فأظلّ حاملة جميلها هذا أبد الدهر..  

وحده صوتك يشعرني في هذا الفزع أن الدنيا بخير، أن السكة لن تنتهي، وأني لن أملّ الطواف؛ الدار كما هي، الطوريّة في الطين متروكة، والأطفال السُمر يلعبون في كل مكان، وأنا آمنة مُطمئنة أضع رأسي على كتف داليا في الميدان المجاور للجامعة، نتقاسم صوتك وانت تترنم مُغنيًا " على بابك نهارات الصبر واقفات"، نسهو عن همومنا الصغيرة - الكبيرة حينها - ونستسلم للجو الخريفي والمطر يُنقط من سحابة رمادية فاتحة، ومن صوتك؛ مطرًا عِزّ الحريق.. 

تُطربني رنّة عُودك، تُشبهني، أنا بنتُ الضواحي، آلف أغانيك وأستأنس بها في كل أحوالي، لا أنساها في الليالي المخمليّة،لا أُبدلها وإن سكنتُ العمارات السوامق، ولن تنسيني كُل الأسامي الأجنبية اسمك يا مُصطفى..

كيف أنسى؟ 
وهل يمكن أن تغادرني هذه الرقة اللانهائية، وهذا اللون الساحر الذي يتسرب من السماعة لأذني مُغازلًا "حلوة عينيك زي صحابي" في ظُهريّة باهته لم يكن لها قبل صوتك لون ولا طعم! 

وحدك كُنت ومازلت قادرًا على إعادتي لحُلم الوطن المستحيل، لداري المُطلة على النيل، لأيامي العذبة وأنا أنثر ضيقي وهمي في شوارع أُم دُر الفسيحة، أستمع لعم عبدالرحيم، لصلوات الغُبش للأمين قاسم، يحيط بي شجر أُم دُر، القوارب تسبح في نيلها، والزُرّاع في الوادي والأشياء كما يصفها - محمد عبدالحي - "تبحر في قداستها الحميمةْ. وتموج في دعةٍ، فلا شيء نشاز، كلُّ شيءٍ مقطعٌ، وإشارةٌ تمتد من وترٍ إلى وترٍ، على قيثارة الأرض العظيمةْ "... 

في الباص المُغادر للجزيرة يتسلل صوتك مُغنيًا قمر الزمان؛ يأخذ قلبي وعقلي، أسهو عن محطتي فأضطر للمشي مسافة طويلة حتى أصل، وصوتك في البال يُرافقني، ويربت على كتفي.. 

لليل يملأه عُودك وانت ترتل قصيدة النوّاب "زهرة الصبار"، وانا أصفف شعري أمام المرآة، وأسرح وأتساءل لماذا جنتي في النار؟! 


سفر العمر أبى أن ينتهي يا مُصطفى، وتأخر الربيع.. تأخر جدًا، وبدأت أشُكُّ أنه لن يجيء، القلب خاوٍ، شاكٍ من طول الطريق، والبنيةُ الخايفة تُهدهد أوجاعها ليلًا بأغانيك، علّ صوتك يُعيد لها شيئًا مما فقدته، لم تعد نهارات الصبر واقفات ببابها، غادرها الرفاق واختفت محطاتها الحنينة، أيامها ليل وغربة ومطر يتسلل ماءه ليغرق قلبها وروحها، تُغني على دارك ودارها غناوي الحسرة والأسف الطويل..



٥ نوفمبر ٢٠٢٣

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟