بين ذاكرة الأرض وذاكرة الفرد

بين ذاكرة الأرض وذاكرة الفرد
قراءة شخصية في مونولوجات بشير أبوسن.

منذ أكثر من أربعة أعوام كان الوطن دارًا شاسعة وأليفة
في ذاكرتي، فارغة إلا من عُدةٍ لا أجيد استعمالها، وأثاث
قديم لكنه يُثير في نفسي شجنًا لم أعرفه ولم آلفه من
قبل. تسلحت بالمُحبة وبدأت أُعيد تأهيل ذاكرتي ونفض
الغبار عن شجوني القديمة؛ وكان لشعر بشير وحكاياته
عن الطيب صالح والفيتوري وغيرهم من العظماء فضلٌ
عظيمٌ علي في تلك الأيام. 
ما زلت أذكر قراءتي العاصفة بالدموع أول مرة لديوانه
"أغنيات في شارع الحريّة"، أقرأ بداية الأبيات فينساب
باقيها على شفتيّ، وأذكر ليالي الغُربة التي قرأت فيها
شعر بشير في فيسبوك وتويتر، وبقي في ذاكرتي فريدًا
ومُختلفا عن غيره، وأليفًا مُحببًا دون غيره. 

وأذكر أيضًا قصيدة الفيتوري "سقوط دبشيلم" بصوته
المجروح، كطقسٍ يوميٍ يفصل ليلي عن نهاري، أرتب
فوضى الليل في غرفتي وأُلملم أكواب القهوة؛ ضوء
الشمس يتسرب من ستائر غرفتي في الثامنة صباحًا،
وصوت بشير تجرحه قصيدة الفيتوري 
 "الريح في شوارع المدينة المائلة الشرفات 
تُدحرج الطبول 
والقمر القديم شاحب الرؤى 
يحلُمُ بالأفول 
يا ريح ما الذي أقول
لو أن ذاك القمر القديم مات
ما الذي أقول "

أعيد قراءة مونولوجات بشير للمرة السادسة، لكني
أدركت منذ القراءة الأولى أني متورطة في ديوان شديد
الكثافة، نجح في حشد كُل الصور والنصوص والأغنيات
التي عرفتها عن الوطن في عمري كله في صفحات
قليلة، هذا شعر أعرف أن الكتابة على ظله لن تبلغ كمالًا
يرضيني، لكنني أعرف أيضًا أنها كتابةٌ واجبة، ومحاولة
للتعبير عن شُكرٍ وامتنان مُستحقَّيْن. 
بوسعك أن تقرأ الوجدان السوداني في شعر بشير، ومن
زخم ما يصفه لن ترمش عينك حتى؛ خوفًا من أن
تفوتك صهلة خيل!. النار الأفريقيّة، أمدرمان الخليل
وفلق الصباح، سِنّار السمندل، الزُرقة والأنهار والنيل،
والخيول التي تُحاول اللحاق بالذكرى. يستحضر بشير كل
ذلك دون جهد في قصائده، في مواضع ومعانٍ مُناسبة
ومُتسقة مع بناء القصيدة.

في قصيدة " المونولوج الأخير" يصف بشير غيابه
الاضطراري عن كُل شيء، عن معاني الأُلفة والمودة في
الوطن؛ عن الشمس والنيل، يصف الغُربة في شكلها
الدرويشي؛ برزخًا في اللامكان، وحيرةً بين الوطن
وصورته المُعلقة على حبل الذاكرة :
"فيما أُعالج حرقةً ما في الفؤادِ
أعادني للوقت صوتٌ:
من تحدثُ؟ 
قلتُ لا أحدٌ هُناكَ
ولا هُنا.."

في هذا الديوان الذي قال عنه صاحبه "صورة واحدة
لذات تقف أمام هذا العالم محتشدة بالأسئلة". 
 تُجيب هذه الصورة على السؤال الذي أقعد الفراشة عن
الطيران - سؤال الهوية كما يصفه درويش - ومن تأثري
الشخصي الشديد بهذا السؤال تحديدًا جاءت فتنتي
بشعر بشير؛ الذي يجيب ببداهة شديدة عن هذا السؤال
الصعب، نحن مزيج لا يمتزج، وأظن أن علينا أن نتقبل
هذا الالتباس. 
هذا السؤال الموروث بالنسبة لنا كشعب سوداني
نتجت عنه تيارات شعرية وفنية وسياسية مختلفة
ومتناحرة في أحيان كثيرة، واقترفنا باسمه ذنوبًا كثيرة،
مازلنا ندفع أثمانها الغالية حتى يومنا هذا.. 
جاء كُل ذلك عندما حاولنا في لحظة غفلةٍ أن نمزج بالقوة
مزيجًا لا يمتزج، فنتج عن محاولتنا هذه صدعٌ عظيمٌ تزداد
هاويته عُمقًا يومًا بعد يوم.

ولأن "الشعر وحده هو الإنسان والحقيقة" جاءت إجابة
هذا السؤال منه. من المدّ الشعري السوداني وبالتحديد
من "مدرسة الغابة والصحراء" والتي كان من روادها
الشاعر والأستاذ السمندل مُحمد عبدالحي، والتي نرى
آثارها الواضحة في شعر بشير في هذا الديوان تحديدًا. 
يبدأ البحث من ذلك الجرح الذي لا يشفى، جُرح الهُوية.
مُتمثلًا في اللون الأسود؛ باعتباره كان ومازال أكثر
أجزائها انتهاكًا. 
"يا وجهي، تحملني 
ويا لوني، ابتسم للحضارات التي اتّخذتكَ عنوانًا " 
" في لوحة اسمها الغزو" كان السواد حاضرًا أيضًا: 
" أذكرُ أني 
مذ أبصرتُ وكُلُّ الخيل تُفتشُ عني 
تركُضُ فوقي 
تغرقُ فيّ
تهلك في صحراء سوادي
تطلُب مجدًا بين يديّ ''  
ابتسم هذا اللون الملتبس والمُحيّر للحضارات ابتسامةً
واثقة؛ بوصفه لونًا أفريقيًا خالصًا تهلك بين يديه
الأعادي وتطلُبُ مجده، ليتجلى لنا هُنا اتصال بشير 
بالمدّ الشعري السوداني مُحتملًا كُل تناقضاته في الدفاع
عن هذه الهويّة وفي الإجابة عن هذا السؤال.

ويكمل بشير البحث عن الإجابة؛ متجولًا في ذاكرتنا على
صهوة خيل حجريّة كاشفًا الغطاء عن كُل الجراح، من
هول القرن التاسع عشر وحتى أهوال قرننا هذا. يكتب
بشير عن جرح جيلنا الخاص، عن ديسمبر المجيد مُحولًا
إياه من حدث مباشر - كما كان في ديوانه الأول" أغنيات
في شارع الحرية " - إلى رمز يستمد معناه وشرعيته من
التاريخ، في تجسيد واضح لنبوءة الفيتوري عندما قال
" الجيل يسقط في قدر الجيل، 
والآخرون هم الآخرون". 

ولأن لمعظم قصائد بشير محلٌ في ذاكرتي، ولأن لي
ذاكرةً قويّةً بعض الشيء، أظن أني آلف وأعرف مطالع
كل القصائد التي أحببتها جيدًا، وأرى تحيزي لبعض
الصور والمطالع القديمة تحيزًا مُبررًا جدًا .. 
بُتر مطلع القصيدة الأولى، شعرت بنقصه "لافتة
مُتصدعة" وقع منها مطلع.. 
كان في قراءتي الأولى 

"يا أيها البلد الأمين 
لم تعد تكفيك معرفة النجوم من الضلال" 

وأصبح في الديوان المنشور

" ها لم تعد تكفيك معرفة النجوم
 لكي تقيك من الضلال" 

للشاعر كل الحق في الحذف والإضافة والتعديل على
قصيدته، لصالح الموسيقا الشعرية أو لرأيه الشخصي
الجمالي؛ لكن الحذف هنا جعل القصيدة تُشبه بيتًا لا
عتبة له، أو صورة "بازل" تنقصها قطعةٌ هامّة. 

 وقطعة هامة أيضًا في قصيدة" برقيات حب تسبق
القافلة" 
كانت في قراءتي الأولى 
" رديني لمملكة البراءة 
حيث لا نخشى من اللغة المجاز
ولا تقوم الحرب من فرط التآويل" 
وأصبحت في الديوان 
"حيث لا نخشى من اللغة المجاز
ولا تقوم الحربُ
لا ينمو العويلْ" 
كانت تحمل معنى شديد العذوبة والفرادة، يقيم في
الذاكرة ولا يغادرها، وكنت أستدل به كثيرًا في زمن
كثُرت فيه الحروب التي تقوم من فرط التآويل،
وأصبحت بعد الحذف تحمل معنى مطروقًا وعاديًا! 

*عن المُغني المصلوب في مواجهة السلطة والجمال 

ورد ذكر الشاعر والمغني السوداني خليل فرح في
قصيدتين مُختلفتين، في قصيدتي الحب كان المُغني
هو الخليل، الرجل الذي غنّى على فراش المرض عازة في
هواك، مازجًا في صورة بديعة وجه الحبيبة بالوطن، أشار
إليه بشير صراحة في "برقيات حب تسبق القافلة"
كمحطة أخيرة للحيرة في قوله "وعدت لأمدرمان سامرتُ
الخليل"، وأورد ذكر قصيدته "فلق الصباح" في "أغنية
لجلوسك بحرا على بحر" عندما وصف الحبيبة قائلًا
"وأخفُّ من فلق الصباح أتيتِ
من شعر الحقيبيين أغنيةً
ومن رقص الحُفاة الموقظين الليل شبالا". 

يحاول بشير في مونولوجاته الإجابة على سؤالنا الطازج
والطارئ والمُحيّر جدًا؛ تُرى هل يمكن أن تنتصر ذاكرة
الأرض المُشبعة والمُترعة بالصراع على واقع المُغني
وجيله وهل سننجو من الشرك المعد لكل جيل؟ 
" أن نضبط الإيقاع مهنتنا
وأن نحتال 
كي ننجو من الشَّرَك المُعد لكل جيل "
لا أظن أنه يسعنا أن نرى إجابة واضحة على هذا السؤال
في وقتنا الحالي على الأقل؛ يعِدُنا بشير بالإجابة في الغد
القريب حيثُ
"لا ألم سوى ما يترك الطير المهاجرُ في التأمل
والحبيبةُ إذ تماطل" 
وحين تنفكّ الحياة عن رفيقها الموت وتكُف عن
محاربتنا 
" والحياةُ - رفيقة الموت القديمة - 
لا تحاربنا 
ولا نحيا نقاتل "

يأخذ المُغني دوره التاريخيّ مُختارًا غير مُجبر، عالمًا
بمصيره وقانعًا به، مؤثرًا نجاة أُمته على نجاته، آملًا بزوال
طُغاتها، راكضًا نحو موته، بعد أن آوى العصافير التي
حطّت على صدر المغني. 
" الليل في عينيك يبحث عن مغنيه القديم
وأنتَ تعرفُ كيف مات :
مُعلقَا في السوق 
كي يهدأ مزاج التاج
والألحان جفّت في منابعها الخبيئة 
أنت مُتهم بإيواء العصافير 
التي حطّت على صدر المغني 
والبكاء عليه
فاركض نحو موتك 
لعنة المزمار في عينيك 
والشجن المقيم" 

يركض الشاعر نحو موته تحت سياط السلطان ويأبى أن
يُهادنه حتى الرمق الأخير
 "ما قُلتَ حين رُميتَ للسلطان تحت سياطه :
ما أعدلك." 
لا يلوم المُغني أحدًا، لا يجهر بالشكوى ولا يمّن على أحد،
يواجه مصيره، ويمدح حصاره قائلًا
"ولستُ أرتدي تضرع الشُّكاةِ
أو وداعة الضحيّة
لأنني أنا الذي أردتُ أن أقول ما أقول"  

يموت المُغني مصلوبًا؛ والمصلوب حيٌّ وميتٌ في آن
واحد؛ قضى الطاغية على وجوده الماديّ، لكنه يعرف
يقينًا أنه عائد لا محالة، أنه سيبعث في عهد جديد ليحيي
ثورة جديدة ضد الطاغية الذي لا يموت وإنما تتناسل
صورته جيلًا بعد جيل. 
"مصلوبًا في واجهةِ العصر النافق
أذكر أني
فيما كُنت أمدّ ذراعِي
نحو بلادي
كيف انقضّ عليّ العسكر
..
وأنا لا أنسى يا مأساتي أن أتذكر" 

نرى في قصيدة الفيتوري "سقوط دبشليم " موقفًا
مُختلفًا يقفه بيدبا الحكيم في وجه الملك الجليل
دبشليم، ساخرًا منه سخريةً مُبطنة في نصحه، مُهددًا إياه
بزواله الحتمي 
"وقد نصحتُ قبل ألف عام 
مُتوجًا مثلك
ما أعدله وأعدلك 
لكنه ازدرى نصيحتي ازدراني، وبقيتُ بينما هَلَك" 
كان الحكيم يعرف أن مقاومته المُباشرة - وإن أكسبتهُ
شرف المُحاولة - ستُعجّل من هلاكه، ولن يضمن هلاكه
هلاك الطاغية، لذلك آثر أن تكون مقاومته مُقاومةً ناعمة
لن تضر به ولن تقودهُ مجرورًا إلى حتفه. 

وعد عبدالقادر محمد              
الخبر – المملكة العربية السعودية
١٤ نوفمبر ٢٠٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟