بين الحمامة وطوق الحمامة


بين الحمامة وطوق الحمامة
صُلح مؤقت 




تدوينة العام الثاني والعشرين. 

يقول الشاعر أحمد بخيت
" في الحُب لا رقٌ ولا إعتاق
أعلى ذُرى الحرية استرقاق
لا طوق في عنق الحمامة إنما
طوق الحمامة قلبها التوّاق" 

أُعيد قراءة ما كتبته بثينة العيسى في "كبرت ونسيت أن أنسى"، ويستوقفني قولها الذي تبنيته ورددته لأعوام طويلة حتى اعتدته ونسيت مصدره.. 
 " آتني لُغتي، آتني لُغتي، يارب اللُغة، لك السبحان والمجد.."
أكتب في هذا العام نصًا موغلًا في الذاتيّة؛ عن الشِعر الذي يسيج حواف الحياة والذاكرة، عن المعطف الأبيض وما يخفيه، وعن البلاد وما ورثته منها من آمال وخيبات، وعن المرايا والوجوه.. 

ألتفت للمرايا أينما واجهتها، أنظر إليها وأبتسم، أُحييها، وأنظر لما خلفها، أرى صورتي القديمة في خمس مرايا مُعلقات على جدار العُمر الواسع.. 

في المرآة الأولى 
تحت شجرة كبيرة وعظيمة، على ضفة نهر شديد الزُرقة؛ طفلة محلولة الضفائر، يسري على جيدها شعر مموج، تخيط بكفها موضع جرح في صدرها، بادٍ على وجهها وجع طفيف لا تطفئه ابتسامتها؛ تُغرد حولها العصافير ويزهر تحت أقدامها الورد والريحان.. 

في المرآة الثانية
ميدان واسع، متظاهرون ولافتات، يحيط بهم دُخان رماديّ، عيون دامعة ونيران صغيرة مُشتعلة هُنا وهُناك؛ والفتاة "محلولة الضفائر" تقف خلف نافذة بعيدة؛ وتطُل على الميدان كما يُطل الحالم على الدرب الوحيد لتحقيق هذا الحُلم..
انتهى الحُلم نهاية دمويّة - مثل كل الأحلام في بلادها - وغاب الحُلم وضحاياه خلف نهايات أكثر دموية عاشتها البلاد فيما بعد. 

في المرآة الثالثة
تحت الضوء الخافت للمصباح المختبئ في تمثال برج بيزا؛ تجلس الفتاة وقد تحوّل الشعر المموج - من أثر الضفائر - لشعر أجعد يحيط بالوجه الدائري؛ بين كفّيها فنجان قهوة كبير "أكبر من المُعتاد"؛ تحيط بها نُسخ مختلفة لدواوين وقصائد محمود درويش، وتنشغل بكتابة تدوينة طويلة في ذكرى ميلاده
"يبدأ الشِعر عند درويش، تنبت المعاني ثم تتفرع، تعلّمت الأبجدية كلها من حروفه، وبقي هُناك يُسيّج حواف الذاكرة، يقيني من السقوط في العدم؛ في اللاشِعر.. "
خلف المرآة، أوراق مطوية وقصاصات، رسائل طويلة على هوامش الكُتب، في حواشيها وصفحاتها الفارغة؛ وشال خمري يجوب البلاد ويقطع المسافات وشتاء طويل لا ينتهي ..

في المرآة الرابعة
ظلال وحكايا وسماء زرقاء واسعة موشحة بالنجوم، طريق قصير تغطيه أغصان الأشجار، تمشي فيه الفتاة عجلة ومرتبكة؛ تطمئن في كل لحظة على الكتب والدفاتر في حقيبتها.. 
في قاعة المشرحة الواسعة، تُخبئ الفتاة كفها المرتعش في جيب المعطف الأبيض، تغمض عينيها وتنتقل - كلما صدح صوت الجَرس - من طاولة لطاولة، تخرج كفها الباردة لتضعها على السهم؛ تقرأ السؤال وتهمهم ثم تكتب إجابة لا تعلم احتمالية صحتها - ولا يسعها أن تتوقع حتى!
ريح عاصفة، وجو غائم، الكُتب الورق الشعر الأغنيات والحكايا تتطاير؛ والفتاة تلهث خلف كل ذلك، تتفتّق خيوط الجرح، تشتعل في طرف المعطف نارٌ؛ وتفر من صدرها حمامة محبوسة ..

في المرآة الخامسة
استقر المعطف الأبيض فوق المشجب؛ هدأ تيار الهواء وتوقفت الأوراق عن الطيران؛ اخضرّت الشجرة العظيمة، واستقرت ضمادة ورديّة فوق جُرح الفتاة، على كتفها الأيمن تستقر الحمامة؛ ترف بجناحيها عندما تُبدي الفتاة تورطًا - أكثر من اللازم - بالواقع والحياة، وتُغادرها إن جثم على سمائها الصافية دخان الخوف والغمّ..
واستقرت في نفس الفتاة - جنبًا إلى جنب - فطرة الشجرة في التجذّر والاستقرار؛ مع قَدر الحمامة في السفر والارتحال ..
 تحت نخل المدينة الطيّب، أمام طاولة خشبية في مقهى جميل وجو ماطِر؛ تجلس الفتاة وحيدة، بين كفيها كوب القهوة المشهود، وموسم هجرة الطيب صالح يرافقها في عيدها الثاني والعشرين.. 

تضع خطًا عريضًا تحت ما كتبه
"ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير. أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوقها، فأحس بالطمأنينة. أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل، له جذور، له هدف. "

٢٢ يناير ٢٠٢٥
المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن أدب النساء وليلى أبوالعلا

قلق التأخُر

كيف أنساكِ؟